سورة هود - تفسير تفسير أبي حيان

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (هود)


        


لما ذكر تعالى ما يدل على كونه تعالى عالماً، ذكر ما يدل على كونه قادراً، وتقدّم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس. والظاهر أنّ قوله: وكان عرشه على الماء، تقديره قبل خلق السموات والأرض، وفي هذا دليل على أنّ الماء والعرش كانا مخلوقين قبل. قال كعب: خلق الله ياقوتة خضراء فنظر إليها بالهيبة فصارت ماء، ثم خلق الريح فجعل الماء على متنها، ثم وضع العرش على الماء. وروي عن ابن عباس أنه وقد قيل له: على أي شيء كان الماء؟ قال: كان على متن الريح، والظاهر تعليق ليبلوكم بخلق. قال الزمخشري: أي خلقهن لحكمة بالغة، وهي أنْ يجعلها مساكن لعباده، وينعم عليهم فيها بفنون النعم، ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه. ولما أشبه ذلك اختبار المختبر قال: ليبلوكم، يريد ليفعل بكم ما يفعل المبتلي لأحوالكم كيف تعملون. (فإن قلت): كيف جاز تعليق فعل البلوى؟ (قلت): لما في الاختبار من معنى العلم، لأنه طريق الله، فهو ملابس له كما تقول: انظر أيهم أحسن وجهاً، واستمع أيهم أحسن صوتاً، لأنّ النظر والاستماع من طرق العلم انتهى. وفي قوله: ومن كفر وعصى عاقبه، دسيسة الاعتزال. وأما قوله: واستمع أيهم أحسن صوتاً، فلا أعلم أحداً ذكر أن استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر، وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف. وقيل: ليبلوكم متعلق بفعل محذوف تقديره أعلم بذلك ليبلوكم، ومقصد هذا التأويل أن هذه المخلوقات لم تكن بسبب البشر. وقيل: تقدير الفعل، وخلقكم ليبلوكم. وقيل: في الكلام جمل محذوفة، التقدير: وكان خلقه لهما لمنافع يعود عليكم نفعها في الدنيا دون الأخرى، وفعل ذلك ليبلوكم. ومعنى أيكم أحسن عملاً: أهذا أحسن أم هذا. قال ابن بحر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم «أيكم أحسن عقلاً، وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله» ولو صح هذا التفسير عن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعدل عنه. وقال الحسن: أزهد في الله. وقال مقاتل: أتقى لله. وقال الضحاك: أكثركم شكراً.
قال الزمخشري: (فإن قلت): فكيف قيل: أيكم أحسن عملاً وأعمال المؤمنين هي التي تتفاوت إلى حسن وأحسن، فأما أعمال المؤمنين والكافرين فتفاوتهما إلى حسن وقبيح؟ (قلت): الذين هم أحسن عملاً هم المتقون، وهم الذين استبقوا إلى تحصيل ما هو غرض الله منن عباده، فخصهم بالذكر، واطرح ذكر من وراءهم تشريفاً لهم وتنبيهاً على مكانهم، وليكون ذلك تيقظاً للسامعين وترغيباً في حيازة فضلهم انتهى. ولئن قلت، خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. وقرأ عيسى الثقفي: ولئن قلت بضم التاء إخباراً عنه تعالى، والمعنى: ولئن قلت مستدلاً على البعث من بعد الموت، إذ في قوله تعالى: وهو الذي خلق، دلالة على القدرة: العظيمة، فمتى أخبر بوقوع ممكن وقع لا محالة، وقد أخبر بالبعث فوجب قبوله وتيقن وقوعه.
وقرئ: أيكم بفتح الهمزة. قال الزمخشري: ووجهه أن يكون من قولهم: ائت السوق إنك تشتري لحماً، بمعنى علك أي: ولئن قلت لهم لعلكم مبعوثون بمعنى توقعوا بعثكم وظنوه، لأثبتوا القول بإنكاره لقالوا: ويجوز أن يضمن. قلت معنى ذكرت انتهى يعني: فبفتح الهمزة لأنها في موضع مفعول ذكرت، والظاهر الإشارة بهذا إلى القول أي: إن قولك إنكم مبعوثون إلا سحر أي بطلان هذا القول كبطلان السحر، ويحتمل أن يكون إشارة إلى ما دلت عليه الجملة من البعث. أي: إن البعث. وقيل: أشاروا بهذا إلى القرآن، وهو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحراً فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره. قال ابن عطية: كذبوا وقالوا: هذا سحر، فهذا تناقض منهم إن كان مفطوراً بقربات الله فاطر السموات والأرض فهو من جملة المقرب بهذا، وهم مع ذلك ينكرون ما هو أيسر منه بكثير وهو البعث من القبور، إذ البداءة أعسر من الإعادة، وإذ خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس انتهى. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو جعفر، وشيبة، وفرقة من السبعة: سحر. وقرأت فرقة: ساحر، يريدون والساحر كاذب مبطل، ولئن أخرنا حكى تعالى نوعاً آخر من أباطيلهم واستهزائهم، والعذاب هنا عذاب القيامة. وقيل: عذاب يوم بدر. وعن ابن عباس: قتل جبريل المستهزئين، والظاهر العذاب الموعود به، والأمّة هنا المدة من الزمان قاله: ابن عباس، وقتادة، ومجاهد، والجمهور، ومعناه: إلى حين. ووقت معلوم ما يحبسه استفهام، قالوه وهو على سبيل التكذيب والاستهزاء. قال الطبري: سميت المدة أمة، لأنها يقضي فيها أمة من الناس وتحدث أخرى، فهي على هذا المدة الطويلة، ثم استفتح الأخبار بأنه يوم لا يردّه شيء ولا يصرفه. والظاهر أنّ يوم منصوب بقوله: مصروفاً، فهو معمول لخبر ليس. وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين. وذهب الكوفيون والمبرد: إلى أنه لا يجوز ذلك، وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل. وأيضاً فإنّ الظرف المجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: إن اليوم زيداً مسافر، وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خبر ليس عليها، ولا بمعموله، إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية، وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلا لجاجه *** وكنت أبياً في الخفا لست أقدم
وتقدم تفسير جملة وحاق بهم.


لما ذكر تعالى عذاب الكفار وإنْ تأخر لا بد أن يحيق بهم، ذكر ما يدل على كفرهم وكونهم مستحقين العذاب لما جبلوا عليه من كفر نعماء الله، وما يترتب على إحسانه تعالى إليهم مما لا يليق بهم من فخرهم على عباد الله. والظاهر أنّ الإنسان هنا هو جنس، والمعنى: إنَّ هذا الخلق في سجايا الناس، ثم استثنى منهم الذين ردّتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح، ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إلا الذين صبروا متصلاً. وقيل: المراد هنا بالإنسان الكافر. وقيل: المراد به إنسان معين، فقال ابن عباس: هو الوليد بن المغيرة، وفيه نزلت. وقيل: عبد الله بن أمية المخزومي، وذكره الواحدي، وعلى هذين القولين يكون استثناء منقطعاً ومعنى رحمة: نعمة من صحة، وأمن وجدة، ثم نزعناها أي سلبناها منه. ويؤوس كفور، صفتا مبالغة والمعنى: إنه شديد اليأس كثيره، ييأس أنْ يعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، ويقطع رجاءه من فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه. كفور كثير الكفران، لما سلف لله عليه من نعمة ذكر حالة الإنسان إذ بدئ بالنعمة ولم يسبقه الضر، ثم ذكر حاله إذا جاءته النعمة بعد الضر. ومعنى ذهب السيئات أي: المصائب التي تسوءني. وقوله هذا يقتضي نظراً وجهلاً، لأن ذلك بإنعام من الله، وهو يعتقد أنّ ذلك اتفاق أو بعد، وهو اعتقاد فاسد. إنه لفرح أشر بطر، وهذا الفرح مطلق، فلذلك ذم المتصف به، ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيداً بما فيه خير كقوله: {فرحين بما آتاهم الله من فضله} وقرأ الجمهور: لفرح بكسر الراء، وهي قياس اسم الفاعل من فعل اللازم. وقرأت فرقة: لفرح بضم الراء، وهي كما تقول: ندس، ونطس. وفخره هو تعاظمه على الناس بما أصابه من النعماء، واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات. ومنها الشكر على النعماء. أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه، وأجر كبير هو الجنة، فيقتضي الفوز بالثواب. ووصف الأجر بقوله: كبير، لما احتوى عليه من النعيم السرمدي ورفع التكاليف، والأمن العذاب، ورضا الله عنهم، والنظر إلى وجهه الكريم.


قال الزمخشري: كانوا يقترحون عليه آيات تعنتاً لا استرشاد، لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في رشادهم. ومن اقتراحاتهم: لولا أنزل عليه كنز، أو جاء معه ملك، وكانوا لا يعتدون بالقرآن، ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، فكان يضيق صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك أي: لعلك تترك أن تلقيه إليهم، وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به، وضائق به صدرك بأنْ تتلو عليهم أن يقولوا مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه. ثم قال: إنما أنت نذير أي: ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك، وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردّوا أو تهاونوا أو اقترحوا، والله على كل شيء وكيل يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه، وكل أمرك إليه.
وقال ابن عطية: سبب نزول هذه الآية أن كفار قريش قالوا: يا محمد لو تركت سب آلهتنا وتسفيه آبائنا لجالسناك واتبعناك، وقالوا: إئت بقرآن غير هذا أو بدله، ونحو هذا من الأقوال، فخاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على هذه الصورة من المخاطبة، وقفه بها توقيفاً رادّاً على أقوالهم، ومبطلاً لها. وليس المعنى أنه عليه السلام هم بشيء من ذلك ثم خرج عنه، فإنه لم يرد قط ترك شيء مما أوحي إليه، ولا ضاق صدره به، وإنما كان يضيق صدره بأقوالهم وأفعالهم وبعدهم عن الإيمان. ولعلك ههنا بمعنى التوقيف والتقرير، وما يوحي إليه هو القرآن والشريعة والدعاء إلى الله كان في ذلك سب آلهتهم، وتسفيه آبائهم أو غيره. ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد عظم عليه ما يلقى من الشدة، فمال إلى أن يكون من الله إذن في مساهلة الكفار بعض المساهلة، ونحو هذا من الاعتقادات التي تليق به صلى الله عليه وسلم كما جاءت آيات الموادعة. وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك، وإن كان ضيق أكثر استعمالاً، لأنه وصف لازم، وضائق وصف عارض. وقال الزمخشري: (فإن قلت): لم عدل عن ضيق إلى ضائق؟ (قلت): ليدل على أن ضيق عارض غير ثابت، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفسح الناس صدراً. ومثله قولك: سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد انتهى.
وليس هذا الحكم مختصاً بهذه الألفاظ، بل كل ما يبنى من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن فاعل رد إليه إذا أريد معنى الحدوث، فنقول: حاسن من حسن، وثاقل من ثقل، وفارح من فرح، وسامن من سمن، وقال بعض اللصوص يصف السجن ومن سجن فيه:
بمنزلة أما اللئيم فسامن بها *** وكرام الناس باد شحوبها
والظاهر عود الضمير في به على بعض. وقيل: على ما، وقيل: على التبليغ، وقيل: على التكذيب، قيل ولعل هنا للاستفهام بمعنى هل، والمعنى: هل أنت تارك ما فيه تسفيه أحلامهم وسب آلهتهم كما سألوك؟ وقدروا كراهته أن يقولوا، ولئلا يقولوا، وبأن يقولوا، ثلاثة أقوال. والكنز المال الكثير. وقالوا: أنزل، ولم يقولوا أعطى، لأن مرادهم التعجيز، وأنهم التمسوا أن ينزل عليه من السماء كنز على خلاف العادة، فإنّ الكنوز إنما تكون في الأرض. وطلبهم آية تضطر إلى الإيمان، والله عز وجل لم يبعث الأنبياء بآيات اضطرار، إنما بعثهم بآيات النظر والاستدلال، ولم يجعل آية الاضطرار إلا للأمة التي أراد تعذيبها لكفرها بعد آية الاستدلال، كالناقة لثمود، وآنسه تعالى بقوله؛ إنما أنت نذير، أي: الذي فوض إليك هو النذارة لا تحصيل هدايتهم، فإن ذلك إنما هو لله تعالى. وقال مقاتل: وقيل: كافل بالمصالح قادر عليها. وقال ابن عطية: المحصي لإيمان من شاء، وكفر من شاء. قيل: وهذه الآية منسوخة، وقيل: محكمة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8